في القنصلية الليبية في موسكو تأملت وجه القذافي في الصورة
المعلقة له في بهو الزائرين .. كنت أعتقد وقتها أنه أحد أقارب ليبيا التي
تركناها بعد فطار ساخن من عصيدة بالرب والحلبة والسكر .. كنت طفلا وقتها
سنة 89 تقريبا .. غورباتشوف تائه في دهاليز التركة السوفيتية يبحث عن توابل
تدفأ الصقيع الشيوعي وتعيد روسيا كي تنظر من عاصمة القياصرة سانت بطرسبرج
الي اوروبا .. سانت بطرسبرج التي طغى عليها أسم فلاديمير لينين لتصير "
ليننغراد " ..
كطفل ستكون نظرتك مثالية مربوطة بمعارفك الوليدة .. كنت
أحيانا أتأمل " الوحامة " التي في جبهة غورباتشوف .. رأيتها شبيهة بخريطة
وطنه وقتها الاتحاد السوفيتي .. وكطفل ستقارن .. لماذا لا توجد خريطة ليبيا
علي جبهة العقيد القذافي .. خريطة ليبيا المرسومة علي علبة الادوات
الدراسية التي نسميها في ليبيا " الهندسة " .. والتي احضرناها أخي الكبير
كمال وأنا .. من شقتنا لنري اطفال "ليننقراد" شكل بلادنا علي الخريطة. ..
كانت الهندسة كما أتذكر ترسم صورة وطن عربي كبير وكل بلاد
بلون مميز .. أول كلمة تعلمناها بالروسية كانت حسب ما أتذكر "دوبرا أوترا
-صباح الخير" .. كان التلفزيون الروسي وقتها وجبة دسمة مليئة بافلام الحرب
العالمية الثانية التي ضل الشعب السوفيتي يستحضرها طوال حياته .. كانت تسمي
عندهم الحرب الوطنية العظمي. ..
بعد زمن طويل علي عودتنا أكتشفت سبب تجييش المجتمع الشيوعي الذي حبانا القدر برؤية السنوات الاخيرة في عمره .. قبل ان يسرع غورباتشوف في قطع الحبل السري للحزب الشيوعي المرتبط بالجمهوريات السوفيتية .. وذلك نتيجة الصدمات الوجودية التى تعرض لها فى حروبه عبر التاريخ .. والدرس الاقسى حين كانت البلاد قاب قوسين او ادنى من سقوطها تحت القدم النازية المرعبة لهتلر.
في روسيا رغم إننا لعبنا بكل أنواع العساكر وبكل أنواع الاسلحة .. و ماكينة استهداف الغواصات تحت الماء .. إلا أن الشق الثاني هو من يصنع الانسانية الروسية و يؤثر بها علي من يعايشها، هذا الطرف كان الطبيعة الساحرة المذهلة في روسيا البحيرات جمال الناس .. الحدائق أمام البيوت بنمنحوتاتها .. الرسوم المتحركة للاطفال .. أغانيهم المليئة بالشجن العاطفية والوطنية " ككاتيوشا " .. صيفهم الساحر .. الذي تمتلأ فيه البحيرات بالمصطافين .. كما أن الادب الروسي ضل مقيما في الروح الروسية.
وأنا طفل مع أخوتي المقاربين لعمري كنا نلعب وسط روايات غوغول وتولستوي،غوركى و دوستويفسكي وتشيخوف .. الدون الهادي .. الصيف الاخير ..الانفس الميته .. هذه بعض عناوين رواياتهم عن دار رادوغا.
لقد كان لينين من الوجوه المصاحبة لي في الطفولة بصوره ووجوهه علي البروشات والملصقات والتماثيل .. لازلت أتذكر تصوير له وهو يخطب في الشعب الروسي متقدا حماسا في أحد الفيديوهات المسجلة له في شتاء روسيا الفادح .. لا يمكن المقارنة بين لينين والقذافي أبدا .. الأول أخطأ لكنه كان المترجم الأول الفعلي للماركسية بكل اخفاقاتها و مناهجها العلمية التي لا تزال حية داخل لب الفكر النقدي المعاصر.
مات لينين وضل الحاضر الغائب .. وأتذكر ذلك اليوم الذي كنا فيه بالساحة الحمراء بالكرملين حين رأيت طابور طويل من الناس امام مزار .. سألت أبي ما هذا يا أبي .. قال لي أنهم يزورون قبر لينين زعيم الاتحاد السوفيتي الأول .. فقلت له لماذا لانزوره .. فأنساني ابي الموضوع بطريقته الحانية والذكية.
وأذكر أحد المرات التي قمت فيها بكارثه حين ذهبت إلي السوق القريب منا لأشتري شئ ما وفضل معي بعض النقود فأشتريب " بروش " يعلق علي الصدر .. عبارة عن صورة جانبية لوجه " لينين " ورجعت إلي البيت وأنا أرتديها .. ليكتشف أهلي الكارثه السياسية الكوميدية التي قمت بها
روسيا درس من دروس الطفولة .. لا ازال أتذكر صديقي " بافلك " الذي علمني كيفية إمساك العناكب والنحل دون خوف و محبة جمع الاحجار النادرة .. وكم كنا أشقياء مع اصدقائنا الاطفال الروس لدرجة قيامنا بخدعة لرجل روسي سكير هو أب لأحد الاطفال بالمنطقة والذي يخجل من افعاله السيئة المتمثلة في أنه دائم الترنح من السكر في الشارع مما سبب في احراج ابنه الطفل .. فقمنا بمثابة الدرس لهاذا الاب .. حينما ملأنا له زجاجة خمر فاضية وجدناها في الشارع بالماء المتجمع في أحد برك الحديقة .. وقدمها له أحد افراد مجموعتنا من الاطفال .. لنموت بالضحك وهو يشرب منها ويتفاجأ بطعمها .. وكان انتقامه بسيطا بمحبة رغم أنه أراد اعطائنا درس .. حينما هرب الجميع وكنت أقلهم سرعة ليمسك بي ويرفعني من فوق الارض وينزلني ويتركني أحمل الرسالة الي اصدقائي الأشقياء الحلوين.
- خيرى جبودة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق